الجمهـورية الجزائـرية الديمقراطيـة الشعبيـة
وزارة التعليـم العالـي والبحث العلمـي
جامعـة قاصـدي مرباح ورقلـة
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
شعبة الفلسفـة
لجنة التكوين في الطور الثالث ل م د
مقياس: الفينومينولوجيا والمنهج الأداتي
للأستاذ د. أحمذ زيغمي
الفينومينولوجيا الخالصة:
الموقف الفينومينولوجي موقف نقدي بالأساس، وهو موقف مُوجّه توجيها مباشرا لموقف آخر هو الموقف الطبيعي، وهكذا تصبح الفينوينولوجيا الخالصة متمثلة في رؤية تجاوزية، وهي غير ممكنة سوى بالنظر إلى التحقق الفعلي لعملية هدم الموقف الطبيعي، لأن الموقف الفينومينولوجي موقف غير قابل للتعايش مع غيره من المواقف، بوصفه الموقف النقدي الواجب ان يتسيد، كي تشرع الفينومينولوجيا الخالصة في إرساء قواعد العلم الاكثر صلابة على الإطلاق.1
وما من شك في ان فكرة الفينومينولوجيا ليست فكرة عديمة الصلة بكل اجتهاد منهجي سابق، بل هي مندرجة في تلك السبيل اندراجا تاما، ولا يعني قطعها مع الموقف الطبيعي، أنّها تقطع أيضا مع كافة مراحل تشكل ما اصطلح عليه بنظرية المعرفة، وهي مستحيلة الاستيعاب إذا ما تم فصلها عن التطورات التي عرفها علم النفس في القرنين التاسع عشر والعشرين، وسوف نكون اكثر منهجية إن نحن تتبعنا ما يقوله هوسرل نفسه عن فكرة الفينومينولوجيا. بدل أن نسلك مسلك معاصريه الذين اشتكى من أهمالهم لكل التوضيحات التي دأب على تقديمها باستمرار لكن دون جدوى.2
وسوف نجمل ما يتعين الانطلاق منه لاستيعاب فكرة الفينومينولوجيا، في صورة ما ينبغي استبعاده من أوهام ، وما ينبغي استحضاره من شروط لذلك الاستيعاب:
أولا: لايتعلق الأمر بالفينومينومينولوجيا عامة، بل يتعلق حصرا بالفينومينولوجيا الخالصة، إذ هي المؤسس المنطقي والمنهجي وحتى الأنطولوجي لكل فينومينولوجيا مقبلة، او ينتظر منها ان تصير علما، كفينومينولوجيا التاريخ، او الاجتماع، او النفس، أو الطبيعة. فهي كلها مباحث معرفية موضوعها الظواهر، لكنها بحاجة إلى تأسيس علم الظاهرات الخالص اولا، بما هو ظاهرات في ذاتها، بغض النظر عن كونها ظاهرات انسانية، او اجتماعية، او فيزيائية، او نفسية.
ثانيا: يتعلق الأمر إذا بعلم للوقائع، ولضرب مخصوص منها؛ إنه علم وقائع الوعي الخالصة، وبهذا تصبح فكرة الفينومينولوجيا هي البحث عن أساس متين يمكننا من التعرف على قواعد إعادة بناء احداث العالم الموضوعي ضمن أفق الوعي الخالص، أو ما يبقى منها في أفق ذاك الوعي بعد التخلص من كل أثر انفعالي، أو تجريبي بما هو أثر قابل للوصف عند كل إنسان.
ثالثا: كما يتعلق الامر بتجاوز المنهجية التي قامت عليها أبحاث كافة النفسانيين التجريبيين أو الوصفيين، ولايتعلق الأمر بتحويل علم النفس إلى منطق، أو إلى حساب حملي للقضايا، حتى وإن كانت الفينومينولوجيا الخالصة معنية بكل تلك المسائل، إلاّ أنها عمل ابستيمولوجي موضوعه مراجعة نقدية شاملة لمناهج علم النفس.
رابعا: فكرة الفينومينولوجيا فكرة غير قابلة للإختزال بتاتا، بل هي فكرة مدينة للتحليل، والشرح، والتفصيل بشكل استثنائي جدا.
خامسا:إنّ فكرة الفينومينولوجيا الخالصة لا تكتمل إلا بعد أن تكون قد فرغت من بناء نظرية جديدة في المعرفة، وبالتحديد من إعادة بناء أهم شق فيها وهو نظرية الحكم la théorie du jugement وإن كان هوسرل ينفر من هذه التسمية.3
ولأنّ الآلية المعرفية لأذهاننا كلها محكومة بعملية جد معقّدة هي عملية إصدار الأحكام، فقد صار لزاما على الموقف الفينومينولوجي أن ينظر إلى الحكم نظرة أكثر تبصرا، تحاول تفكيك كافة عناصره، والبحث عن طبيعة ومصدر كل عنصر منها، فليس الحكم قطعا مجرد عملية حيوية، او نفسية، او منطقية، أو انفعالية ذوقية، او أخلاقية قيمية، أو هو مجرد استجابة شعورية، بل هو كل ذلك ويزيد، إنه تأليف جد معقد، وكل محاولة أحادية لتحديد طبيعته هي سقوط في فخ الموقف الطبيعي من جديد، بما هو موقف تبسيطي، يقوم على تلك الثنائية الساذجة التي تقسم المعرفة إلى ما هو ذاتي، وما هو موضوعي، فتجعل تأثير احدهما في الآخر هو عملية الحكم، ومن ثمة هو الاساس لكل معارفنا.
إنّ الموقف الطبيعي إذ يركن لهذه الثنائية، فهو لا يفعل انطلاقا من أي قناعة منطقية، أو تجريبية، بل هو يركن إلى ذلك استنادا إلى ما يجده من طمأنينة يؤمنها هذا الموقف لذواتنا، فيجنبها عناء التفكير المستمر في الإجابة عن السؤال: كيف نعرف، وكيف تصدر احكامنا؟
1 هوسرل، افكارممهدة لعلم الظاهريات الخالص، وللفلسفة الظاهرياتية، مصدر سابق، الصفحات 19،20، 79،80، 91، وما بعدها.
2 اشتكى هوسرل من هذا الأمر كثيرا، يقول:" كثُر الكلام عن علم الظاهرات(الفينومينولوجيا) في الفلسفة، وفي علم النفس الالمانيين خلال القرن الأخير، وقد يتصو البعض هذا العلم- ربما بتوافق مع البحوث المنطقية- طبقة دنيا من علم النفس التجريبي ودائرة "محايثة" من عمليات الوصف لتجارب نفسية معيشة تقوم- هكذا تفهم هذه المحايثة- بدقة تامة في إطار التجربة الباطنية، ويبدو ان اعتراضي على هذه النظرة لم يثجدِ [نفعا] كثيرا كما أن ما أنجزته من إضافات استدركت فيها على علاجي السابق استدراكا صارما على الأقل في بعض المسائل الاساسية لم يُفهم، أو هو قد استبعد دون اهتمام"
هوسرل، المصدر نفسه، ص 20،21.
3 المصدر نفسه، ص 316.




